جودي احمد
02-21-2018, 08:19 PM
https://www.kalimat1.com/vb/upload/2017/2199kalimat1.com.jpg
ملخص و فقرة و تعبير عن دور خالد بن الوليد في معركة اليرموك
نطرح لكم في هذه المقالة موضوع عن دور و بطولة و وعبقرية الصحابي الجليل خالد بن الوليد في معركة اليرموك
خالد بن الوليد في معركة اليرموك :
جند الخليفة الصديق لهذه الغاية جيوشًا عديدة واختار لإمارتها نفرا من القادة المهرة، فأرسل أبا عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان.
وأعد الروم للقتال جيشًا قوامه مائتان وأربعون ألفًا. في هذه الأثناء أرسل سيدنا أبو بكر إلى خالد بن الوليد ليأتي إلى الشام فامتثل سيدنا خالد وأطاع وترك على العراق « المثنى بن حارثة » وسار مع قواته التي اختارها حتى وصل مواقع المسلمين بأرض الشام، ونظم الجيش ونسق مواقعه في وقت وجيز، ووقف سيدنا خالد خطيبًا فحمد ربه وأثنى عليه وقال: إن هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم.
وقد دار قتال ليس لضراوته نظير كما قيل، وأقبل الروم في فيالق كالجبال، وبدا لهم من المسلمين ما لم يكونوا يحتسبون، وأبدى المسلمون شجاعة تبهر الألباب، وأقترب أحدهم من أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه والقتال دائر، وقال له: إني قد عزمت على الشهادة، فهل لك من حاجة من رسول الله حين ألقاه، فقال له أبو عبيدة: نعم قل له: يا رسول الله إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، ويندفع الرجل كالسهم المقذوف يضرب بسيفه، ويضرب بالسيوف حتى يرتفع شهيدا وكان هذا عكرمة ابن أبي جهل. وخرج سيدنا خالد بن الوليد مع مائة من الأبطال الأفذاذ ينقضون على ميسرة جيش الروم وعددها أربعون ألف جندي، وخالد يصيح في المائة الذين معه: والذي نفسي بيده ما بقي من الروم من الصبر والجلد إلا ما رأيتم وإني لأرجو من الله أن يمنحكم أكتافهم.
خالد بن الوليد وأحد أمراء الروم:
يروى أن أحد أمراء جيش الروم ويدعى «جرجة بن بوذيها» خرج من الصف واستدعى « خالد بن الوليد» رضي الله عنه للمبارزة فجاء إليه حتى اختلفت أعناق فرسيهما، فقال جرجة: يا خالد أخبرني فاصدقني ولا تكذبني، فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع، هل أنزل الله على نبيكم سيفًا من السماء فأعطاكه فلا تسله على أحد إلا هزمتهم؟ قال: لا! قال: فبم سميت سيف الله؟ قال: إن الله بعث فينا نبيه فدعانا فنفرنا منه ونأينا عنه جميعا، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا كذبه وباعده، فكنت فيمن كذبه وباعده، ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به وبايعناه، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أنت سيف من سيوف الله سله على المشركين » ودعا لي بالنصر، فسميت سيف الله بذلك فأنا من أشد المسلمين على الكافرين.
فقال: يا خالد إلى ما تدعون ؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله والإقرار بما جاء به من عند الله عز وجل. قال: فمن لم يجبكم؟ قال: فالجزية، قال: فإن لم يعطها، قال نؤذنه بالحرب ثم نقاتله. قال: فما منزلة من يجيبكم ويدخل في هذا الأمر اليوم ؟ قال: منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا. قال جرجة: فلمن دخل فيكم اليوم من الأجر مثل ما لكم من الأجر والذخر؟ قال: نعم. قال: وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟ فقال خالد: إنا قبلنا هذا الأمر وبايعنا نبينا وهو حي بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء ويخبرنا بالكتاب ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان له فضل كبير.
فقال جرجة: بالله لقد صدقتني ولم تخادعني؟ قال: تالله لقد صدقتك وإن الله ولي ما سألت عنه، فعند ذلك قلب جرجة الترس ومال مع خالد وقال: علمني الإسلام، فقال له خالد: قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله فتشهد جرجة ودخل في دين الإسلام، فمال به خالد إلى فسطاطه فصب عليه قربة من ماء ثم صلى به ركعتين. ثم زحف خالد بالمسلمين حتى تصافحوا بالسيوف فضرب فيهم خالد وجرجة من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب وأصيب جرجة رحمه الله واستشهد ولم يصل لله إلا تلك الركعتين مع خالد رضي الله عنهما.
أثر شعرات النبي في قوة خالد بن الوليد:
كان لسيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه قلنسوة وضع في طيها شعرًا من ناصية رسول الله صلى الله عليه وسلم أي مقدم رأسه لما حلق في عمرة الجعرانة، وهي أرض بعد مكة إلى جهة الطائف، فكان يلبسها يتبرك بها في غزواته. وعنه أنه قال: « اعتمرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة اعتمرها فحلق شعره، فسبقت إلى الناصية، فاتخذت قلنسوة فجعلتها في مقدمة القلنسوة، فما وجهت في وجه إلا فتح لي ».
قصة عزل خالد بن الوليد وتعيين ابو عبيدة قائداً عاماً للجيش
قد استخلفنا الله سبحانه فيها للابتلاء والامتحان، فالكيس من عمرها بما يقربه إلى مولاه، والعاجز من عمرها واغتر بشهواتها وملذاتها، وقد فقه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ذلك المعنى، فجعلوها مزرعة للآخرة، وقدّموا فيها صالح الأعمال ليوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
نعم هذه هي الدنيا التي قال عنها ربنا جل وعلا: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً }الكهف45
وهذه من أروع الآيات التي تصف حال الحياة الدنيا، فالله عز وجل في هذه الآية وصف الدنيا كأنها ماء أنزله الله من السماء، فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح. فالماء حتى يختلط به نبات الأرض يحتاج إلى فترة ليست بقصيرة ليستعمل ربنا جل في علاه الفاء العاطفة، التي تفيد الترتيب مع التعقيب. فالماء ليختلط به نبات الأرض لا بد وأن يبدأ في النمو على مراحل، إذا يبدأ بشق البذرة وخروج الجذر والساق منها، ثم يكبر الساق وتتفرع عنه الأوراق وسائر الأغصان، ثم يكبر ويشتد عوده، ثم يزهر وقد يثمر، وبعد شهور طويلة يبدأ ورق الشجر هذا بالإصفرار والذبول وييبس، حتى إذا ما ضعف اتصال الورقة بغصن الشجرة سقط عنها في فصل الخريف، وحينها يصبح هشيماً؛ أي يابساً متفرقة أجزاؤه. وحينها تذروه الرياح.
فالله عز وجل لم يذكر كل هذه المراحل التي مر فيها النبات ولم تستحق أن يذكرها الله عز وجل بل عبر عنها كلها بالفاء العاطفة ليخبرنا أن الحياة الدنيا التي نعيش لا تستحق الذكر كما لم تستحق مراحل النبات الذكر، فكيف يكون التعلق بها، وهي دار ممر وليست دار مقر؟!
وعودة إلى عنوان الموضوع .. تعالوا لنعيش مع الصحابة في تعاملهم مع الدنيا، ونتعلم من الصحابة كيف كانوا يتعاملون مع الدنيا، وسنتحدث عن قصة تحدث عنها كثيرون.. إنها قصة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه عندما عزله عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أول توليه للخلافة، عزله وهو في قمة انتصاره الساحق على جيوش الإمبراطورية الرومانية الرهيبة، وكان ذلك بعد موقعة اليرموك التي انتصر فيها المسلمون بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه، فقد كان عدد الروم مائتي ألف رومي، وعدد المسلمين تسعة وثلاثين ألفاً.
ولننظر إلى عظمة جميع المشاركين في هذا الحدث، وهو حدث عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه، ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.
موقف عمر بعد عزله لخالد بن الوليد
تعالوا لننظر إلى عظمة عمر بن الخطاب الذي عزل خالد بن الوليد، قال عمر بن الخطاب: إني لم أعزل خالداً عن سخطة ولا عن خيانة، ولكن الناس فُتنوا به، فخشيت أن يوكلوا إليه ويُفتنوا به، فتأمل إلى فهم وتفكير عمر بن الخطاب ، فقد كانت فتوح الشام وسيلة لدخول الناس الجنة، لكن إن كانت هذه الوسيلة ستبعدنا عن الجنة فليس من الضروري فتحها؛ لأن القضية في حياة المسلمين ليست معركة أو موقفاً أو جيشاً، لا، وإنما القضية قضية دنيا وآخرة، فالناس قد فُتنت بـخالد رضي الله عنه، واعتقدت أن النصر من عنده وليس من عند الله عز وجل، فكلما كان خالد بن الوليد موجوداً ينتصرون، وإذا كان خالد بن الوليد في مكان آخر يُغلبون. إذاً: فالنصر جاء من عند خالد! وهذا الفهم في منتهى الخطورة على عقيدة الناس، ولأن سيدنا عمر بن الخطاب حريص على حياة الناس في الجنة وليس على حياتهم في الشام عزل خالد بن الوليد وهو في أشد الاحتياج إليه، فجيوش المسلمين موزعة بين فارس والروم، ونصر خالد نصر لـعمر بن الخطاب ، وكل الأراضي التي أدخلها خالد بن الوليد في ملك المسلمين، هي في ملك عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، فليست المشكلة أن الأراضي تزيد، ولا الانتصارات تتوالى، وإنما القضية قضية دنيا وآخرة، فيا ترى هل هؤلاء الناس الذين سيكسبون المعركة من أهل الجنة أم من أهل النار؟ هذه هي القضية التي شغلت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وليس عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي يعزل خالداً من أجل مشاكل شخصية أو خلافات قديمة، كما يقول بعض المستشرقين، أو بعض الناس التي فُتنت بمناهج المستشرقين، وليس عمر الذي يضحي بجيشه من أجل أشياء كانت بينه وبين خالد رضي الله عنه وأرضاه، ويُعلم أيضاً من سيرة عمر بن الخطاب أن الدنيا قد غيّرت في حياة كثير من الناس، لكنها لم تغير شيئاً في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. إذاً: فالقضية أن حسابات الدنيا في ذهن عمر لا تساوي شيئاً إلى جوار حسابات الآخرة، فنأخذ الجيوش ونفتح البلاد، ونأخذ الغنائم والسبايا، ونعيش في الدنيا، لكن ليس على حساب الآخرة أبداً، فأوقف عمر الفتوح في فارس سنة سبع عشرة للهجرة؛ لسبب عجيب، وأنا أعتقد أنه لم يتكرر في الأرض ولا مرة إلا في تلك المرة فقط، ألا وهو كثرة الغنائم، فقد فُتن الناس بالدنيا وتغيروا، فأوقف الفتوحات والانتصارات وحافظ على المسلمين من الدنيا؛ لأنه لم ينس كلمة الحبيب صلى الله عليه وسلم: (فاتقوا الدنيا)، فهو على حذر تام طيلة حياته من الدنيا، ولهذا عزل خالد بن الوليد لكي لا يُفتن الناس بالدنيا. فانظروا إلى هذا الفهم العميق الذي كان عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وانظروا إلى هذه التضحية العظيمة، فقد ضحى بعزل أكبر قائد من قواته وفي أحرج اللحظات، فهذا هو القائد الناجح، وهذا هو القائد المسلم الذي ينفع أن يكون قائداً في المسلمين.
موقف أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه من عزل خالد بن الوليد
ننتقل إلى موقف أبي عبيدة بن الجراح الذي عُين قائداً بدلاً من خالد بن الوليد رضي الله عنه، ولنرى موقف الزعيم الجديد للشام، فقد أصبح رئيساً لقطاع كبير من الدولة الإسلامية، فهو أمير الشام وما أدراك ما الشام؟ إنها من أغنى الولايات الإسلامية في ذلك الوقت بعد أن فُتحت، فعندما جاءه خطاب التعيين، ما الذي عمله مع هذا الخطاب المهم جداً؟ هذا الخطاب الذي معظم سكان الأرض يتمنى سطراً واحداً منه، فإن الإنسان ليتمنى أن يكون أميراً على شركة صغيرة أو على قطاع أو مصلحة، لكن ماذا كان حال أمير الشام؟ لقد كانت المفاجأة من أبي عبيدة بن الجراح أنه أخفى خطاب العزل لـخالد بن الوليد، فهو لا يريد أن يكون زعيماً، ولم يُعلم خالدَ بن الوليد بذلك، ثم أتاه خطابٌ آخر من عمر بن الخطاب؛ لأن عمر بن الخطاب كان يعلم أن أبا عبيدة سيأخذ الخطاب ويخبئه ويرفض الإمارة، لكنه رضي الله عنه خبأ الخطاب الثاني حتى انتهت المعركة بقيادة خالد، ووصل الخبر إلى خالد بن الوليد من طريق آخر، أي: أن هناك شخصاً آخر أخبر خالداً بعزل عمر بن الخطاب له، وهو لم يكن يعرف بعد أن أبا عبيدة تم تعيينه أميراً على الجيش، فذهب مسرعاً إلى أبي عبيدة ليلومه على ذلك، فقال أبو عبيدة لـخالد بن الوليد : وما سلطان الدنيا أريد، وما للدنيا أعمل، وما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع. أي: ما ترى يا خالد من الملك والإمارة والسلطة سوف يذهب، وإنما نحن إخوان وقوام بأمر الله تعالى، سواء الحاكم والمحكوم، أو القائد والجندي، وما يضر الرجل أن يلي عليه أخوه في دينه لا دنياه، بل يعلم الوالي أنه يكاد أن يكون أدناهما إلى الفتنة. أي: فتنة الإمارة وفتنة الدنيا. ثم قال: وأوقعهما في الخطيئة، لما يعرض له من الهلكة، إلا من عصم الله عز وجل، وقليل ما هم. أي: أن القليل جداً من الأمراء الذين لا يقعون في الدنيا، فلماذا أطلب الإمارة إذا كانت خطرة على ديني، وسوف تصعّب عليّ امتحان الدنيا؟ مسكين فعلاً هذا الذي لا يفهم حقيقة الدنيا.ثم قام أبو عبيدة وخطب في جيش المسلمين يعظّم من أمر خالد فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خالد سيف من سيوف الله، نعم فتى العشيرة)، فلا يظن ظان أن خالداً عُزل لنقص في دينه أو ضعف في رأيه، أبداً، فالرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه مدحه وسماه: سيف الله. انظروا إلى عظمة أبي عبيدة بن الجراح عندما يقول هذا الكلام في هذا الموضع، يعظّم من القائد الذي عُزل وهو قد جُعل في مكانه، وليس أن يذكر سيئاته السابقة وأنه كان يعمل كذا وكذا، بل يعظم من أمر خالد وغير مسرور لتولي الإمارة، لماذا كل هذا؟ لأنه يعرف قيمة الدنيا، ولو أنه لم يعرفها لكان فرحاً جداً بأنه قد أصبح أميراً على الشام.
عظمة خالد بن الوليد رضي الله عنه وموقفه من عزل عمر له
برزت عظمة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، هذا الرجل الذي كان في أعظم درجات الملك، وفي أعلى درجات التفوق والانتصار، فقد كان جيش المسلمين في الشام قبل أن يأتي خالد بن الوليد في أزمة خطيرة، ولم يستطع أن يحقق إلا نصراً يسيراً جداً، وظل شهوراً لا يستطيع أن ينتصر، بينما سيدنا خالد كان في العراق له انتصاراته الأولى والثانية والثالثة، ففكر سيدنا أبو بكر بنقل خالد من العراق لينقذ جيوش الشام، وعندما أتى خالد من العراق إلى الشام، وهو في طريقه إلى جيش الشام حقق خمسة انتصارات في الشام، وهذا قبل أن يقابل جيش الشام، وبعد أن قابل جيش الشام كانت موقعة اليرموك الخالدة، أي: أن سيدنا خالداً كان يعمل عملاً لا يستطيع أحد تصوره حتى الناس الذين يعيشون معه، سواء من الصحابة أو غيرهم، وهنا سيدنا أبو بكر يقول: أعجزت النساء أن يلدن مثل خالد؟ فانظروا إلى خالد وهو في قمة هذا الانتصار يعزل، فماذا كان ردة فعله؟إن خالداً في كل هذه الطريق وفي كل هذه الانتصارات لم يقل كلمة (أنا) مرة واحدة، بل كان دائماً ينسب الأمر إلى الله عز وجل، وتأمل إلى هذا الموقف في موقعة اليرموك لأحد الجنود المسلمين، إذ يقول بعد أن نظر إلى أعداد الروم الهائلة: ما أكثر الروم وأقل المسلمين، فسمعه خالد بن الوليد فقال له في ثقة شديدة، ثقة الرجل الواثق من ربه سبحانه وتعالى: اصمت أيها الرجل، بل ما أقل الروم وما أكثر المسلمين، إنما تكثر الجنود بنصر الله عز وجل، وتقل الجنود بالخذلان لا بعدد الرجال، ووالله لوددت أن الأشقر -أي: فرسه- براء من توجعه وأنهم أُضعفوا في العدد. أي: وددت أن يكون فرسي سليماً والرومان أربعمائة ألف. فـخالد بن الوليد عندما أتاه قرار العزل سلّم الراية بدون تردد إلى أبي عبيدة بن الجراح، وقال: ما عليّ أن أقاتل في سبيل الله قائداً أم جندياً. أي: ما دام أن ذلك كله في سبيل الله فلا فرق بين أن أكون قائداً أم جندياً؛ لأنه في النهاية كله في سبيل الله، والغاية هي إرضاء الله عز وجل، سواء أرضاه في كرسي الحاكم، أو في كرسي المحكوم، أو في كرسي القائد، أو في كرسي الجندي، ففي النهاية أنت ترضي الله عز وجل. ثم قام يخطب في الجيش ويقول: بعث عليكم أمين هذه الأمة، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح) ولم يقل: بماذا فُضِّل عليّ؟ ولم يقل: ما الذي فعله أبو عبيدة قبل أن آتي من العراق؟ ولم يخبر أنه قد ظُلم بهذا القرار، مع أن كل الجيش كان يحبه حباً لا يوصف، لكن لو كان قال هذا الكلام لأحدث فتنة، لكنه لا يريد ذلك، ولماذا الفتنة؟ من أجل الدنيا، هو يعرف قيمة الدنيا، فهي لا تساوي عنده شيئاً. فقد خاض رضي الله عنه معارك كثيرة جداً، حتى قيل: إنها قد تجاوزت المائة، وانتصر فيها جميعاً دون هزيمة واحدة، وغنم غنائم شتى، وربح أموالاً عظيمة، ولم يترك بعد موته إلا فرساً وسلاحاً وغلاماً فقط من كل هذه الدنيا، بل وأمر بإرسالها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وقال: اجعلوها عُدة في سبيل الله، لكن من يستطيع أن يحمل سيفه بعد موته؟ من يستطيع أن يركب خيله؟ أين ذهبت أمواله وغنائمه؟ لقد أنفقها جميعها في سبيل الله، فقد كان جواداً عظيم الجود، كريماً واسع الكرم، يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ولا عجب فهو تلميذ نجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ما هو أكثر ما تمتع به خالد بن الوليد رضي الله عنه في حياته؟قال خالد بن الوليد : ما من ليلة يهدى إليّ فيها عروس أنا لها محب، أو أبشر فيها بغلام أحب إليَّ من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد، في سرية من المهاجرين، أصبّح فيها العدو. فهذه هي متعته في الدنيا، وليست السلطة ولا الإمارة ولا الأموال ولا النساء، بل الجهاد في سبيل الله، وليس أي جهاد، بل الجهاد الصعب الخطير في البرد والليل والجيش القليل والعدو الكثير، فهذا هو خالد بن الوليد وهذه متعته. وقال وهو على فراش الموت: لقد طلبت القتل في مظانه، فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيء أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بتها وأنا متترس، والسماء تهلني _أي: تمطر علي_ ننتظر الصبح حتى نغير على الكفار. ثم قال كلمته المشهورة وهو يبكي: لقد لقيت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم، وها أنا أموت حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء.
فهذه حياة عظيمة خالدة، أتظنون أن ضرب السيوف أو رمي السهام لم يكن يؤلم خالد بن الوليد؟ بل كان يؤلمه، لكنه فقه حقيقة الدنيا، وعلم أنها أيام قليلة يقضيها ثم يموت، علم أن الله عز وجل إن كتب عليه ألماً فسيناله إن لم يحارب أصلاً، وإن كتب عليه موتاً واجهه وإن كان على فراشه، وإن كتب له نجاة سينجيه الله ولو من مائة معركة. كم عاش خالد بن الوليد في الإسلام؟ أربع عشرة سنة فقط، لكنها أعظم من آلاف الأعوام من أعمار الرجال الآخرين الذين ما فقهوا حقيقة الدنيا، وما فقهوا حقيقة الآخرة، وما فقهوا حقيقة الإسلام. وعندما مات خالد بن الوليد ارتفعت أصوات النساء تبكي بكاءً شديداً في بيته وفي المدينة المنورة بكاملها، فقيل لـعمر بن الخطاب أرسل إليهن فانههن، أي: امنع النساء من هذا البكاء، فقال عمر: وما عليهن أن ينزفن من دموعهن على أبي سليمان؛ أي: خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، ثم قال عمر: على مثل أبي سليمان تبكي البواكي، قد ثلم في الإسلام ثلمة لا ترتق؛ أي: أن الإسلام قد جُرح جرحاً لا يلتئم
ثم قال عمر بن الخطاب : كان والله سداداً لنحور العدو، ميمون النقيبة. ورثته أمه بأبيات من الشعر قالت فيها:
أنت خير من ألف ألف من الناس إذا ما كبت وجوه الرجال
أشجاع فأنت أشجع من ليث غضنفر يذود عن أشبال
أجواد فأنت أجود من سيل غامر يسيل بين الجبال
وهذا جزء من قصيدة طويلة، وعندما سمعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: من هذه؟ قالوا: أم خالد، قال عمر: صدقت، والله إن كان لكذلك؛ أي: أنه كان خير من ألف ألف من الناس. فهذه هي الدنيا في منظور خالد وفي منظور عمر وفي منظور أبي عبيدة وفي منظور صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: فأين الدنيا في عيون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا قيمة لها، فيستوي عندهم أن يقودوا أو يُقادوا بغيرهم من المسلمين، وإذا قادوا لم يفتنوا بإمارة ولا سلطان، وإذا انقادوا لم يحسدوا قائداً ولم يرغبوا في القيادة، وإذا أتتهم الدنيا لم يفرحوا بها، وعلموا أنها ستأتيهم راغمة لو أرادها الله لهم، وإذا ولّت عنهم الدنيا لم يحزنوا عليها، وعلموا أنهم لا نصيب لهم فيها إن أرادها الله لغيرهم، وعلموا أنما الدنيا ما هي إلا معبر للآخرة، وعلموا أن الدنيا أرض مؤقتة يعيشون فيها فترة مؤقتة ثم يغادرون إلى دار لا زوال فيها ولا فناء، وعلموا أن درجاتهم في الدار الآخرة على قدر ما يحصدون في الدنيا من الأعمال الصالحة.. لذلك لم يضيعوا لحظة في سبيل الله، ولم يهتموا لحظة بزخرف الدنيا الزائل، بل نظروا رضي الله عنهم وأرضاهم إلى الدنيا بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالدنيا لا تعدل جناح بعوضة، الدنيا كجدي أسك ميت، الدنيا كشجرة في صحراء كبيرة، والفقر لا يُخشى منه، ولكن يخشى من زهرة الدنيا وزينتها، الدنيا اختبار والله ناظر ما نعمل فيها، والأكثرون هم المقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وشماله ومن خلفه، والتنافس على الدنيا مهلك. معان رسخت في عقول وقلوب ودماء وجوارح الصحابة، فما عادوا يتكلفون ذلك، بل أصبح ذلك لهم فطرة، وأصبح ذلك لهم طبيعة، فهذه طبيعتهم من بداية خطواتهم على الدنيا إلى أن ماتوا في الدنيا وهم على نفس النسق، فقد فهموا وهذا الفهم لم يذهب من أذهانهم، وفي ذات الوقت لم يعتزلوا الدنيا أبداً، وما تركوا الناس دون دعوة، وما تركوا الكفار دون جهاد، وما تركوا بيوتهم دون إنفاق، وما تركوا أنفسهم دون زواج، وما تركوا الأرض دون إصلاح وبناء وإعمار، لقد استخلفهم الله في الأرض واستعمرهم فيها، فقاموا بذلك حق القيام، ولم يصبهم في ذلك وهن ولا دخن.وبهذه النظرة المتوازنة سار الصحابة في طريق الدنيا المليء بالأشواك، لكنهم لم يجرحوا في دينهم، ولم يُصابوا في عقيدتهم، ولم يُنقصوا أبداً من أخلاقهم، لذلك وصل الصحابة إلى ما أرادوا أن يصلوا إليه، وصلوا إلى الجنة وإلى النعيم المقيم: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100]فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً كثيراً. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ملخص و فقرة و تعبير عن دور خالد بن الوليد في معركة اليرموك
نطرح لكم في هذه المقالة موضوع عن دور و بطولة و وعبقرية الصحابي الجليل خالد بن الوليد في معركة اليرموك
خالد بن الوليد في معركة اليرموك :
جند الخليفة الصديق لهذه الغاية جيوشًا عديدة واختار لإمارتها نفرا من القادة المهرة، فأرسل أبا عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان.
وأعد الروم للقتال جيشًا قوامه مائتان وأربعون ألفًا. في هذه الأثناء أرسل سيدنا أبو بكر إلى خالد بن الوليد ليأتي إلى الشام فامتثل سيدنا خالد وأطاع وترك على العراق « المثنى بن حارثة » وسار مع قواته التي اختارها حتى وصل مواقع المسلمين بأرض الشام، ونظم الجيش ونسق مواقعه في وقت وجيز، ووقف سيدنا خالد خطيبًا فحمد ربه وأثنى عليه وقال: إن هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم.
وقد دار قتال ليس لضراوته نظير كما قيل، وأقبل الروم في فيالق كالجبال، وبدا لهم من المسلمين ما لم يكونوا يحتسبون، وأبدى المسلمون شجاعة تبهر الألباب، وأقترب أحدهم من أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه والقتال دائر، وقال له: إني قد عزمت على الشهادة، فهل لك من حاجة من رسول الله حين ألقاه، فقال له أبو عبيدة: نعم قل له: يا رسول الله إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، ويندفع الرجل كالسهم المقذوف يضرب بسيفه، ويضرب بالسيوف حتى يرتفع شهيدا وكان هذا عكرمة ابن أبي جهل. وخرج سيدنا خالد بن الوليد مع مائة من الأبطال الأفذاذ ينقضون على ميسرة جيش الروم وعددها أربعون ألف جندي، وخالد يصيح في المائة الذين معه: والذي نفسي بيده ما بقي من الروم من الصبر والجلد إلا ما رأيتم وإني لأرجو من الله أن يمنحكم أكتافهم.
خالد بن الوليد وأحد أمراء الروم:
يروى أن أحد أمراء جيش الروم ويدعى «جرجة بن بوذيها» خرج من الصف واستدعى « خالد بن الوليد» رضي الله عنه للمبارزة فجاء إليه حتى اختلفت أعناق فرسيهما، فقال جرجة: يا خالد أخبرني فاصدقني ولا تكذبني، فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع، هل أنزل الله على نبيكم سيفًا من السماء فأعطاكه فلا تسله على أحد إلا هزمتهم؟ قال: لا! قال: فبم سميت سيف الله؟ قال: إن الله بعث فينا نبيه فدعانا فنفرنا منه ونأينا عنه جميعا، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا كذبه وباعده، فكنت فيمن كذبه وباعده، ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به وبايعناه، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أنت سيف من سيوف الله سله على المشركين » ودعا لي بالنصر، فسميت سيف الله بذلك فأنا من أشد المسلمين على الكافرين.
فقال: يا خالد إلى ما تدعون ؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله والإقرار بما جاء به من عند الله عز وجل. قال: فمن لم يجبكم؟ قال: فالجزية، قال: فإن لم يعطها، قال نؤذنه بالحرب ثم نقاتله. قال: فما منزلة من يجيبكم ويدخل في هذا الأمر اليوم ؟ قال: منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا. قال جرجة: فلمن دخل فيكم اليوم من الأجر مثل ما لكم من الأجر والذخر؟ قال: نعم. قال: وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟ فقال خالد: إنا قبلنا هذا الأمر وبايعنا نبينا وهو حي بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء ويخبرنا بالكتاب ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان له فضل كبير.
فقال جرجة: بالله لقد صدقتني ولم تخادعني؟ قال: تالله لقد صدقتك وإن الله ولي ما سألت عنه، فعند ذلك قلب جرجة الترس ومال مع خالد وقال: علمني الإسلام، فقال له خالد: قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله فتشهد جرجة ودخل في دين الإسلام، فمال به خالد إلى فسطاطه فصب عليه قربة من ماء ثم صلى به ركعتين. ثم زحف خالد بالمسلمين حتى تصافحوا بالسيوف فضرب فيهم خالد وجرجة من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب وأصيب جرجة رحمه الله واستشهد ولم يصل لله إلا تلك الركعتين مع خالد رضي الله عنهما.
أثر شعرات النبي في قوة خالد بن الوليد:
كان لسيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه قلنسوة وضع في طيها شعرًا من ناصية رسول الله صلى الله عليه وسلم أي مقدم رأسه لما حلق في عمرة الجعرانة، وهي أرض بعد مكة إلى جهة الطائف، فكان يلبسها يتبرك بها في غزواته. وعنه أنه قال: « اعتمرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة اعتمرها فحلق شعره، فسبقت إلى الناصية، فاتخذت قلنسوة فجعلتها في مقدمة القلنسوة، فما وجهت في وجه إلا فتح لي ».
قصة عزل خالد بن الوليد وتعيين ابو عبيدة قائداً عاماً للجيش
قد استخلفنا الله سبحانه فيها للابتلاء والامتحان، فالكيس من عمرها بما يقربه إلى مولاه، والعاجز من عمرها واغتر بشهواتها وملذاتها، وقد فقه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ذلك المعنى، فجعلوها مزرعة للآخرة، وقدّموا فيها صالح الأعمال ليوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
نعم هذه هي الدنيا التي قال عنها ربنا جل وعلا: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً }الكهف45
وهذه من أروع الآيات التي تصف حال الحياة الدنيا، فالله عز وجل في هذه الآية وصف الدنيا كأنها ماء أنزله الله من السماء، فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح. فالماء حتى يختلط به نبات الأرض يحتاج إلى فترة ليست بقصيرة ليستعمل ربنا جل في علاه الفاء العاطفة، التي تفيد الترتيب مع التعقيب. فالماء ليختلط به نبات الأرض لا بد وأن يبدأ في النمو على مراحل، إذا يبدأ بشق البذرة وخروج الجذر والساق منها، ثم يكبر الساق وتتفرع عنه الأوراق وسائر الأغصان، ثم يكبر ويشتد عوده، ثم يزهر وقد يثمر، وبعد شهور طويلة يبدأ ورق الشجر هذا بالإصفرار والذبول وييبس، حتى إذا ما ضعف اتصال الورقة بغصن الشجرة سقط عنها في فصل الخريف، وحينها يصبح هشيماً؛ أي يابساً متفرقة أجزاؤه. وحينها تذروه الرياح.
فالله عز وجل لم يذكر كل هذه المراحل التي مر فيها النبات ولم تستحق أن يذكرها الله عز وجل بل عبر عنها كلها بالفاء العاطفة ليخبرنا أن الحياة الدنيا التي نعيش لا تستحق الذكر كما لم تستحق مراحل النبات الذكر، فكيف يكون التعلق بها، وهي دار ممر وليست دار مقر؟!
وعودة إلى عنوان الموضوع .. تعالوا لنعيش مع الصحابة في تعاملهم مع الدنيا، ونتعلم من الصحابة كيف كانوا يتعاملون مع الدنيا، وسنتحدث عن قصة تحدث عنها كثيرون.. إنها قصة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه عندما عزله عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أول توليه للخلافة، عزله وهو في قمة انتصاره الساحق على جيوش الإمبراطورية الرومانية الرهيبة، وكان ذلك بعد موقعة اليرموك التي انتصر فيها المسلمون بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه، فقد كان عدد الروم مائتي ألف رومي، وعدد المسلمين تسعة وثلاثين ألفاً.
ولننظر إلى عظمة جميع المشاركين في هذا الحدث، وهو حدث عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه، ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.
موقف عمر بعد عزله لخالد بن الوليد
تعالوا لننظر إلى عظمة عمر بن الخطاب الذي عزل خالد بن الوليد، قال عمر بن الخطاب: إني لم أعزل خالداً عن سخطة ولا عن خيانة، ولكن الناس فُتنوا به، فخشيت أن يوكلوا إليه ويُفتنوا به، فتأمل إلى فهم وتفكير عمر بن الخطاب ، فقد كانت فتوح الشام وسيلة لدخول الناس الجنة، لكن إن كانت هذه الوسيلة ستبعدنا عن الجنة فليس من الضروري فتحها؛ لأن القضية في حياة المسلمين ليست معركة أو موقفاً أو جيشاً، لا، وإنما القضية قضية دنيا وآخرة، فالناس قد فُتنت بـخالد رضي الله عنه، واعتقدت أن النصر من عنده وليس من عند الله عز وجل، فكلما كان خالد بن الوليد موجوداً ينتصرون، وإذا كان خالد بن الوليد في مكان آخر يُغلبون. إذاً: فالنصر جاء من عند خالد! وهذا الفهم في منتهى الخطورة على عقيدة الناس، ولأن سيدنا عمر بن الخطاب حريص على حياة الناس في الجنة وليس على حياتهم في الشام عزل خالد بن الوليد وهو في أشد الاحتياج إليه، فجيوش المسلمين موزعة بين فارس والروم، ونصر خالد نصر لـعمر بن الخطاب ، وكل الأراضي التي أدخلها خالد بن الوليد في ملك المسلمين، هي في ملك عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، فليست المشكلة أن الأراضي تزيد، ولا الانتصارات تتوالى، وإنما القضية قضية دنيا وآخرة، فيا ترى هل هؤلاء الناس الذين سيكسبون المعركة من أهل الجنة أم من أهل النار؟ هذه هي القضية التي شغلت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وليس عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي يعزل خالداً من أجل مشاكل شخصية أو خلافات قديمة، كما يقول بعض المستشرقين، أو بعض الناس التي فُتنت بمناهج المستشرقين، وليس عمر الذي يضحي بجيشه من أجل أشياء كانت بينه وبين خالد رضي الله عنه وأرضاه، ويُعلم أيضاً من سيرة عمر بن الخطاب أن الدنيا قد غيّرت في حياة كثير من الناس، لكنها لم تغير شيئاً في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. إذاً: فالقضية أن حسابات الدنيا في ذهن عمر لا تساوي شيئاً إلى جوار حسابات الآخرة، فنأخذ الجيوش ونفتح البلاد، ونأخذ الغنائم والسبايا، ونعيش في الدنيا، لكن ليس على حساب الآخرة أبداً، فأوقف عمر الفتوح في فارس سنة سبع عشرة للهجرة؛ لسبب عجيب، وأنا أعتقد أنه لم يتكرر في الأرض ولا مرة إلا في تلك المرة فقط، ألا وهو كثرة الغنائم، فقد فُتن الناس بالدنيا وتغيروا، فأوقف الفتوحات والانتصارات وحافظ على المسلمين من الدنيا؛ لأنه لم ينس كلمة الحبيب صلى الله عليه وسلم: (فاتقوا الدنيا)، فهو على حذر تام طيلة حياته من الدنيا، ولهذا عزل خالد بن الوليد لكي لا يُفتن الناس بالدنيا. فانظروا إلى هذا الفهم العميق الذي كان عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وانظروا إلى هذه التضحية العظيمة، فقد ضحى بعزل أكبر قائد من قواته وفي أحرج اللحظات، فهذا هو القائد الناجح، وهذا هو القائد المسلم الذي ينفع أن يكون قائداً في المسلمين.
موقف أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه من عزل خالد بن الوليد
ننتقل إلى موقف أبي عبيدة بن الجراح الذي عُين قائداً بدلاً من خالد بن الوليد رضي الله عنه، ولنرى موقف الزعيم الجديد للشام، فقد أصبح رئيساً لقطاع كبير من الدولة الإسلامية، فهو أمير الشام وما أدراك ما الشام؟ إنها من أغنى الولايات الإسلامية في ذلك الوقت بعد أن فُتحت، فعندما جاءه خطاب التعيين، ما الذي عمله مع هذا الخطاب المهم جداً؟ هذا الخطاب الذي معظم سكان الأرض يتمنى سطراً واحداً منه، فإن الإنسان ليتمنى أن يكون أميراً على شركة صغيرة أو على قطاع أو مصلحة، لكن ماذا كان حال أمير الشام؟ لقد كانت المفاجأة من أبي عبيدة بن الجراح أنه أخفى خطاب العزل لـخالد بن الوليد، فهو لا يريد أن يكون زعيماً، ولم يُعلم خالدَ بن الوليد بذلك، ثم أتاه خطابٌ آخر من عمر بن الخطاب؛ لأن عمر بن الخطاب كان يعلم أن أبا عبيدة سيأخذ الخطاب ويخبئه ويرفض الإمارة، لكنه رضي الله عنه خبأ الخطاب الثاني حتى انتهت المعركة بقيادة خالد، ووصل الخبر إلى خالد بن الوليد من طريق آخر، أي: أن هناك شخصاً آخر أخبر خالداً بعزل عمر بن الخطاب له، وهو لم يكن يعرف بعد أن أبا عبيدة تم تعيينه أميراً على الجيش، فذهب مسرعاً إلى أبي عبيدة ليلومه على ذلك، فقال أبو عبيدة لـخالد بن الوليد : وما سلطان الدنيا أريد، وما للدنيا أعمل، وما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع. أي: ما ترى يا خالد من الملك والإمارة والسلطة سوف يذهب، وإنما نحن إخوان وقوام بأمر الله تعالى، سواء الحاكم والمحكوم، أو القائد والجندي، وما يضر الرجل أن يلي عليه أخوه في دينه لا دنياه، بل يعلم الوالي أنه يكاد أن يكون أدناهما إلى الفتنة. أي: فتنة الإمارة وفتنة الدنيا. ثم قال: وأوقعهما في الخطيئة، لما يعرض له من الهلكة، إلا من عصم الله عز وجل، وقليل ما هم. أي: أن القليل جداً من الأمراء الذين لا يقعون في الدنيا، فلماذا أطلب الإمارة إذا كانت خطرة على ديني، وسوف تصعّب عليّ امتحان الدنيا؟ مسكين فعلاً هذا الذي لا يفهم حقيقة الدنيا.ثم قام أبو عبيدة وخطب في جيش المسلمين يعظّم من أمر خالد فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خالد سيف من سيوف الله، نعم فتى العشيرة)، فلا يظن ظان أن خالداً عُزل لنقص في دينه أو ضعف في رأيه، أبداً، فالرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه مدحه وسماه: سيف الله. انظروا إلى عظمة أبي عبيدة بن الجراح عندما يقول هذا الكلام في هذا الموضع، يعظّم من القائد الذي عُزل وهو قد جُعل في مكانه، وليس أن يذكر سيئاته السابقة وأنه كان يعمل كذا وكذا، بل يعظم من أمر خالد وغير مسرور لتولي الإمارة، لماذا كل هذا؟ لأنه يعرف قيمة الدنيا، ولو أنه لم يعرفها لكان فرحاً جداً بأنه قد أصبح أميراً على الشام.
عظمة خالد بن الوليد رضي الله عنه وموقفه من عزل عمر له
برزت عظمة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، هذا الرجل الذي كان في أعظم درجات الملك، وفي أعلى درجات التفوق والانتصار، فقد كان جيش المسلمين في الشام قبل أن يأتي خالد بن الوليد في أزمة خطيرة، ولم يستطع أن يحقق إلا نصراً يسيراً جداً، وظل شهوراً لا يستطيع أن ينتصر، بينما سيدنا خالد كان في العراق له انتصاراته الأولى والثانية والثالثة، ففكر سيدنا أبو بكر بنقل خالد من العراق لينقذ جيوش الشام، وعندما أتى خالد من العراق إلى الشام، وهو في طريقه إلى جيش الشام حقق خمسة انتصارات في الشام، وهذا قبل أن يقابل جيش الشام، وبعد أن قابل جيش الشام كانت موقعة اليرموك الخالدة، أي: أن سيدنا خالداً كان يعمل عملاً لا يستطيع أحد تصوره حتى الناس الذين يعيشون معه، سواء من الصحابة أو غيرهم، وهنا سيدنا أبو بكر يقول: أعجزت النساء أن يلدن مثل خالد؟ فانظروا إلى خالد وهو في قمة هذا الانتصار يعزل، فماذا كان ردة فعله؟إن خالداً في كل هذه الطريق وفي كل هذه الانتصارات لم يقل كلمة (أنا) مرة واحدة، بل كان دائماً ينسب الأمر إلى الله عز وجل، وتأمل إلى هذا الموقف في موقعة اليرموك لأحد الجنود المسلمين، إذ يقول بعد أن نظر إلى أعداد الروم الهائلة: ما أكثر الروم وأقل المسلمين، فسمعه خالد بن الوليد فقال له في ثقة شديدة، ثقة الرجل الواثق من ربه سبحانه وتعالى: اصمت أيها الرجل، بل ما أقل الروم وما أكثر المسلمين، إنما تكثر الجنود بنصر الله عز وجل، وتقل الجنود بالخذلان لا بعدد الرجال، ووالله لوددت أن الأشقر -أي: فرسه- براء من توجعه وأنهم أُضعفوا في العدد. أي: وددت أن يكون فرسي سليماً والرومان أربعمائة ألف. فـخالد بن الوليد عندما أتاه قرار العزل سلّم الراية بدون تردد إلى أبي عبيدة بن الجراح، وقال: ما عليّ أن أقاتل في سبيل الله قائداً أم جندياً. أي: ما دام أن ذلك كله في سبيل الله فلا فرق بين أن أكون قائداً أم جندياً؛ لأنه في النهاية كله في سبيل الله، والغاية هي إرضاء الله عز وجل، سواء أرضاه في كرسي الحاكم، أو في كرسي المحكوم، أو في كرسي القائد، أو في كرسي الجندي، ففي النهاية أنت ترضي الله عز وجل. ثم قام يخطب في الجيش ويقول: بعث عليكم أمين هذه الأمة، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح) ولم يقل: بماذا فُضِّل عليّ؟ ولم يقل: ما الذي فعله أبو عبيدة قبل أن آتي من العراق؟ ولم يخبر أنه قد ظُلم بهذا القرار، مع أن كل الجيش كان يحبه حباً لا يوصف، لكن لو كان قال هذا الكلام لأحدث فتنة، لكنه لا يريد ذلك، ولماذا الفتنة؟ من أجل الدنيا، هو يعرف قيمة الدنيا، فهي لا تساوي عنده شيئاً. فقد خاض رضي الله عنه معارك كثيرة جداً، حتى قيل: إنها قد تجاوزت المائة، وانتصر فيها جميعاً دون هزيمة واحدة، وغنم غنائم شتى، وربح أموالاً عظيمة، ولم يترك بعد موته إلا فرساً وسلاحاً وغلاماً فقط من كل هذه الدنيا، بل وأمر بإرسالها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وقال: اجعلوها عُدة في سبيل الله، لكن من يستطيع أن يحمل سيفه بعد موته؟ من يستطيع أن يركب خيله؟ أين ذهبت أمواله وغنائمه؟ لقد أنفقها جميعها في سبيل الله، فقد كان جواداً عظيم الجود، كريماً واسع الكرم، يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ولا عجب فهو تلميذ نجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ما هو أكثر ما تمتع به خالد بن الوليد رضي الله عنه في حياته؟قال خالد بن الوليد : ما من ليلة يهدى إليّ فيها عروس أنا لها محب، أو أبشر فيها بغلام أحب إليَّ من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد، في سرية من المهاجرين، أصبّح فيها العدو. فهذه هي متعته في الدنيا، وليست السلطة ولا الإمارة ولا الأموال ولا النساء، بل الجهاد في سبيل الله، وليس أي جهاد، بل الجهاد الصعب الخطير في البرد والليل والجيش القليل والعدو الكثير، فهذا هو خالد بن الوليد وهذه متعته. وقال وهو على فراش الموت: لقد طلبت القتل في مظانه، فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيء أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بتها وأنا متترس، والسماء تهلني _أي: تمطر علي_ ننتظر الصبح حتى نغير على الكفار. ثم قال كلمته المشهورة وهو يبكي: لقد لقيت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم، وها أنا أموت حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء.
فهذه حياة عظيمة خالدة، أتظنون أن ضرب السيوف أو رمي السهام لم يكن يؤلم خالد بن الوليد؟ بل كان يؤلمه، لكنه فقه حقيقة الدنيا، وعلم أنها أيام قليلة يقضيها ثم يموت، علم أن الله عز وجل إن كتب عليه ألماً فسيناله إن لم يحارب أصلاً، وإن كتب عليه موتاً واجهه وإن كان على فراشه، وإن كتب له نجاة سينجيه الله ولو من مائة معركة. كم عاش خالد بن الوليد في الإسلام؟ أربع عشرة سنة فقط، لكنها أعظم من آلاف الأعوام من أعمار الرجال الآخرين الذين ما فقهوا حقيقة الدنيا، وما فقهوا حقيقة الآخرة، وما فقهوا حقيقة الإسلام. وعندما مات خالد بن الوليد ارتفعت أصوات النساء تبكي بكاءً شديداً في بيته وفي المدينة المنورة بكاملها، فقيل لـعمر بن الخطاب أرسل إليهن فانههن، أي: امنع النساء من هذا البكاء، فقال عمر: وما عليهن أن ينزفن من دموعهن على أبي سليمان؛ أي: خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، ثم قال عمر: على مثل أبي سليمان تبكي البواكي، قد ثلم في الإسلام ثلمة لا ترتق؛ أي: أن الإسلام قد جُرح جرحاً لا يلتئم
ثم قال عمر بن الخطاب : كان والله سداداً لنحور العدو، ميمون النقيبة. ورثته أمه بأبيات من الشعر قالت فيها:
أنت خير من ألف ألف من الناس إذا ما كبت وجوه الرجال
أشجاع فأنت أشجع من ليث غضنفر يذود عن أشبال
أجواد فأنت أجود من سيل غامر يسيل بين الجبال
وهذا جزء من قصيدة طويلة، وعندما سمعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: من هذه؟ قالوا: أم خالد، قال عمر: صدقت، والله إن كان لكذلك؛ أي: أنه كان خير من ألف ألف من الناس. فهذه هي الدنيا في منظور خالد وفي منظور عمر وفي منظور أبي عبيدة وفي منظور صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: فأين الدنيا في عيون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا قيمة لها، فيستوي عندهم أن يقودوا أو يُقادوا بغيرهم من المسلمين، وإذا قادوا لم يفتنوا بإمارة ولا سلطان، وإذا انقادوا لم يحسدوا قائداً ولم يرغبوا في القيادة، وإذا أتتهم الدنيا لم يفرحوا بها، وعلموا أنها ستأتيهم راغمة لو أرادها الله لهم، وإذا ولّت عنهم الدنيا لم يحزنوا عليها، وعلموا أنهم لا نصيب لهم فيها إن أرادها الله لغيرهم، وعلموا أنما الدنيا ما هي إلا معبر للآخرة، وعلموا أن الدنيا أرض مؤقتة يعيشون فيها فترة مؤقتة ثم يغادرون إلى دار لا زوال فيها ولا فناء، وعلموا أن درجاتهم في الدار الآخرة على قدر ما يحصدون في الدنيا من الأعمال الصالحة.. لذلك لم يضيعوا لحظة في سبيل الله، ولم يهتموا لحظة بزخرف الدنيا الزائل، بل نظروا رضي الله عنهم وأرضاهم إلى الدنيا بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالدنيا لا تعدل جناح بعوضة، الدنيا كجدي أسك ميت، الدنيا كشجرة في صحراء كبيرة، والفقر لا يُخشى منه، ولكن يخشى من زهرة الدنيا وزينتها، الدنيا اختبار والله ناظر ما نعمل فيها، والأكثرون هم المقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وشماله ومن خلفه، والتنافس على الدنيا مهلك. معان رسخت في عقول وقلوب ودماء وجوارح الصحابة، فما عادوا يتكلفون ذلك، بل أصبح ذلك لهم فطرة، وأصبح ذلك لهم طبيعة، فهذه طبيعتهم من بداية خطواتهم على الدنيا إلى أن ماتوا في الدنيا وهم على نفس النسق، فقد فهموا وهذا الفهم لم يذهب من أذهانهم، وفي ذات الوقت لم يعتزلوا الدنيا أبداً، وما تركوا الناس دون دعوة، وما تركوا الكفار دون جهاد، وما تركوا بيوتهم دون إنفاق، وما تركوا أنفسهم دون زواج، وما تركوا الأرض دون إصلاح وبناء وإعمار، لقد استخلفهم الله في الأرض واستعمرهم فيها، فقاموا بذلك حق القيام، ولم يصبهم في ذلك وهن ولا دخن.وبهذه النظرة المتوازنة سار الصحابة في طريق الدنيا المليء بالأشواك، لكنهم لم يجرحوا في دينهم، ولم يُصابوا في عقيدتهم، ولم يُنقصوا أبداً من أخلاقهم، لذلك وصل الصحابة إلى ما أرادوا أن يصلوا إليه، وصلوا إلى الجنة وإلى النعيم المقيم: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100]فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً كثيراً. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.