العودة   كلمات وعبارات، أفضل موقع عربي > تصنيفات موقع كلمات وعبارات > تصنيف: اسلاميات مميزة

تصنيف: اسلاميات مميزة ادعية مكتوبة , دعاء قصير , اجمل ادعية واذكار , استغفار , دعاء جميل

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 01-30-2018, 02:12 PM
الصورة الرمزية سمراء الجمال
سمراء الجمال سمراء الجمال غير متواجد حالياً
مدير عام
 
تاريخ التسجيل: Apr 2017
المشاركات: 207
سمراء الجمال is on a distinguished road
افتراضي خطبة عن فتح القسطنطينية

 

 



خطب جمعة عن فتح القسطنطينية ..

الخطبة الاولى

الحمد لله؛ مالكِ الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا يقع شيءٌ إلا بإرادته، ولا يُقْضَى قضاء إلا بأمره، يفعلُ ما يشاء، ويحكم ما يريد.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ اصطفاه الله تعالى فجعله خاتم الرسل، واختار أمته لتكون خير الأمم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه؛ بذلوا نفوسهم رخيصة في سبيل الله تعالى فما وَهَنَتْ لهم عزيمة، ولا وقفت في وجوههم قوةٌ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ: فأُوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ فلا مخرج للأُمَّة من همومها، ولا مسلاة لها من أحزانها، ولا نجاة لها من عذاب ربها، ومن تسَلُّطِ أعدائها عليها إلا بتقوى الله تعالى والتزام دينه، وامتثال شريعته: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7].

أيها المسلمون: لئن كانتْ أمة الإسلام في هذا الزمن تعاني تكالُب أعدائها عليها، وبُعْد كثير من المسلمين عن دينهم وكتاب ربّهم؛ حتّى استباح العدو حماها، وسلطَ سلاحَه عليها، وغلَّ يدها بالعُهود الغادِرة، والمواثيق الجائرة، فقعد كثير من المسلمين عن نصرة إخوانهم في فلسطين، والشيشان، ومقدونيا، وكشمير، والفلبّين، وغيرها من البقاع التي يُستباح فيها المسلمون في وَضَح النهار. إذا كان ذلك كله واقعًا أليمًا مهينًا فإنَّ للمسلمين تاريخًا يحفز الهِمَم، ويطردُ اليأس، ويهيجُ العزائم، ويدعو المسلمين إلى التزام دينهم إن أرادوا النصر والعِزَّة، تاريخًا مَليئًا بالشرف والمجد والكرامة، لا يستحيي قارئ مسلم أن يجهر به، ولا باحث فيه أن يبرز أحداثه، تاريخًا يحكي عن رجال أبطال كرام؛ لما أهينوا أو أُهِينَ دِينُهم غضبوا فقاتلوا، فلما انتصروا عَفَوْا وتسامحوا، ويخبر عن حصونٍ دُكَّتْ، ومدن فتِحَت على أيدي المسلمين، قد عزت طوال تاريخها على كبار الفاتحين.

هذه القسطنطينية، عاصمة الدولة البيزنطية، التي امتنعت بِبِحارها وخنادقها، وتحصَّنت بحصونها وأسوارها، بشَّر النَّبي صلى الله عليه وسلم بفتحها قبل أن يبارحَ العرب جزيرة العرب[1]، سيَّر لها بنو أمية الجيوش، ومات أبو أيوب الأنصاري ودُفِنَ تَحْتَ أسوارها[2]، فما استطاعوا فتحها، ثم تأبَّت على بني العباس؛ ولكنها لانت لبني عثمان، ففتحوها في مثل هذا الشهر جمادى الأولى من عام سبعة وخمسين وثمانمائة للهجرة.

وأحداث هذا الفتح عظيمة، وأخباره كثيرة، تحتاج في عرضها وتفصيلها إلى خطب كثيرة.

كانت القسطنطينية العاصمة المُقَدَّسَة الكبرى لنصارى الشرق، وفيها أكثر تراثهم وتاريخهم، وقد حَوَتْ كنائسُها تماثيل أشهر رهبانهم وبَطَاركَتِهم. وموقعها بين آسيا وأوربة جعلها من أفضل المدن موقعًا؛ حتى قال نابليون: "لو كانتِ الدُّنيا مملكة واحدة لكانت القسطنطينية أصلح المدن لتكون عاصمةً لها"[3]، وذكر أنها وحدها تساوي إمبراطورية كاملة، وأنها مفتاحُ العالم؛ منِ استولى عليها استطاع أن يسيطرَ على العالم بأجمعه.

ولما قامت الدولة العثمانيةُ واتسعت رقعتها، كانت القسطنطينية في وسطها، تفصل ممالكها الغربية عن ممالكها الشرقية؛ ولذا حاول خلفاءُ بني عثمان فتحها أكثر من مرة، وكان ملوكها ورهبانُها يَكيدُون للدولة العثمانية، ويدسون الدسائس، ويُدَبِّرُون المكائد، ويؤون كل خارج عليها، ويمدّونه بالسلاح والمال والرجال، وكم مرة عاهدوا ثم نقضوا؛ كما هي سيرة أهل الكتاب[4]. فلمَّا تولَّى عرش السلطنة العثمانيَّة محمَّد بن مراد بعد وفاة والدِه كان همّه الأكبر أن يفتح تلك المدينة المنيعة؛ فأشْغَلَ فِكْرَه بها، وكرَّس جهده لها، وعمل كل عمل يُحَقّق ذلك سياسيًّا وعسكريًّا.

فبَنَى قلعةً جبَّارة قبالتها، وصالح الدول المجاورة لها حتى لا تهبّ لنجدتها، وعقد الهدنة مع كل محاربيه ليتفرَّغ لها، وصنع المدافع العملاقة لدكِّ حصونها، واستحدث أساطيلَ بَحْرِيّة؛ ليَغْزُوَها مِنَ البَرّ والبَحْرِ، ثم درس أسوارها من الداخل والخارج، وأوضاعها وأوضاع أهلها.

فلما رأى ملكُها قُسْطَنْطِين أنَّ الأَمْرَ جِدٌّ، راسل السلطان يطلب الصلح، فطالبه السلطان بتسليمِها بلا قتال، وله ولأهلها الأمنُ والعيش فيها أو غيرها بسلام، فرفض حاكمها ذلك[6]. فعزم السلطان على فتحها، وسار بجيش يُقارب مئة وستّين ألف مقاتل، معهم خيولهم وأنعامهم وعتادهم؛ فضربوا الحصار عليها، وبداخل أسوارها ثمانمائة ألف نفس، منهم أربعون ألف مقاتل قد اصطفُّوا على أسوارها لحمايتها، واستمرَّ الحصار ثلاثًا وخمسين ليلة[7]، كانت مدافعُ المسلمين أثناءها تَدُكّ حُصونَها، ولكنَّ النَّصارى كانوا يَبْنون ما تهدَّم في الحال، وكل طريقة يخترعها المسلمون للاقتحام، أو فتح ثَغْرة، أو التَّسَلُّل إلى داخلها يفشلها النصارى، وكل طريقة تفشل كانت لا تزيد المسلمين إلا إصرارًا على قَهْر تلك الحصون، واجتياز تلك الأسوار، وظَهَرَتْ بطولات عجيبة من الفريقَيْنِ، فالمسلمون المهاجمون صَمَدُوا أمام نيران مدافع القسطنطينية، وواجهوا النِّبال والرماح بِصُدُورِهِمْ، ولم يردَّهم عن تسلق أسوارها الماء المغلي، والزيت الحار الذي يصبه النصارى على المسلمين لردّهم عن الحصون؛ حتى مات حرقًا عشراتٌ من المسلمين، وقُتِلَ مِئاتٌ بالنبال والمدافع، وكل ذلك لم يردَّ السّلطان محمَّدًا عن فتحها؛ بل يفكر في الطريقة تلو الطريقة، وتأْتِيه الفكرة وراءَ الفِكْرة.

ورغْم ما قام به قُسْطَنْطِين من قَتْلِ مائتينِ منَ المسلمينَ المقيمينَ في القُسْطنطينية، وتعليقهم على أسوارها؛ فإن ذلك لم يرهب المسلمين؛ بل زادهم حماسًا لفتحها، وبدأتْ مُؤْنة النصارى تنقص، وأَخَذَهُمُ الجهدُ والتعبُ من هذا الحصار المحكم، وعزم السلطان على الاقتحام العام، لمَّا أحسَّ أنَّ الوقت قد حان؛ فأرسل رسالة إلى قُسْطَنْطِين يطالبُه بالتسليم قبل الهجوم العامّ، وله وللنصارى الأمنُ على أموالهم وأنفسهم وأعراضهم وديارهم، ومَنْ أراد منهم الرحيل منها رحل، ومن أراد البقاء بقي فيها آمنا[9].

وما كان قُسْطَنْطِين إلا شجاعًا متدينًا يعلمُ ما لهذه المدينة من تاريخ وتقديس عند النصارى، فآثر أن يموت فيها على أن يهرب منها، أو أن يسلمها للمسلمينَ، فردَّ على السلطان بأنه قد أقسم أن يدافع عنها إلى آخر نَفَس في حياته، فإمَّا أن يحتفظ بعرشها، أو يدفن تحت أسوارها، فلما بلغ السلطانَ محمَّدًا مقالةُ قُسْطَنْطِين قال رحمه الله تعالى: "حسنًا، عمَّا قريب سيكون لي في القُسْطنطِينية عرشٌ، أو يكون لي فيها قبرٌ".

وقبل الهجوم العام بيومينِ - وكان يوم الأحد - أمر السلطان جنده بالصيام لله تعالى تطهيرًا للنفوس؛ وتقويةً للعزم والإرادة، وفي مساء ذلك اليوم أمر جنده بإضرام النيران العظيمة؛ ليرهب النصارى، وظل المسلمون طيلة الليل يذكرون الله تعالى ويكَبِّرُون بأصوات عالية، حتى قال رئيس أساقفة القسطنطينية: "لو أنَّك سمِعْتَ مثلنا صيحاتهم المتوالية المتصاعدة إلى السماء، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لأخذتك الروعةُ والإعجاب".

وفي يوم الاثنين ترك السلطان جنده يرتاحون، وبدأ يُخَطِّط للهجوم، ثم عبَّأ جنوده في ليلة الثلاثاء، وأمر العلماءَ والمشايخ والخطباءَ أن يحمّسوا الجند، ويذكروهم فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله تعالى فكانوا يتْلُون على الجند آيات الجهاد، ويرغّبونهم فيه، ثم يقولون لهم: "لقد نزل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عند هجرته إلى المدينة في دار أبي أيوب الأنصاري، وقد قصد أبو أيوب هذه البقعة، ومات فيها، ودفن تحت هذه الأسوار"؛ فيلهب ذلك حماسَ الجند، ويكونون أشدَّ شوقًا إلى الاقتحام والفداء".

وخطب فيهم السلطان خطبة قال فيها: "إذا تمَّ لنا فتح القسطنطينية تحقَّق فينا حديثٌ من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزةٌ من معجزاته، وسيكون من حظّنا ما أشاد به هذا الحديث من التمجيد والتقدير، فأبلغوا أبناءنا العساكر فردًا فردًا أن الظفر العظيم الذي سنحرزه سيزيدُ الإسلام قدْرًا وشرفًا، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم شريعتنا الغرَّاء نصب عينيه فلا يصدر عن أحد منهم ما يجافي هذه التعاليم، ليجتنبوا الكنائس والمعابد ولا يمسّوها بأذًى، ويدعوا القسس والضعفاء والعجزة الذين لا يقاتلون".

وفي مقابل ذلك دقَّتْ أجراس الكنائس، واجتمع النصارى فخطب فيهم قُسْطَنْطِين فقال: "أيها المحاربون: أعدوا أنفسكم للقتال والتضحية بأنفسكم وأرواحكم في سبيل هذه البلدة المقدسة، وفي سبيل النصرانية... إن الساعة الخَطِرة الفاصلة التي ارتَقَبْنَاها منذ أيام قد أزفَتْ، إن الرجل ليقاتل ذودًا عن دينه؛ أو وطنه؛ أو ملكه؛ أو أهله؛ أو ولده؛ فكيف وقد جاءت هذه الأسباب كلها مجتمعة؟! والقسطنطينية هي معقل النصرانية، وملكةُ المدن، وقد كانت زمنًا ما عاصمة الدنيا، لقد مضى ثلاثة وخمسون يومًا والعدوّ يُحَاصر هذه المدينة بكل عتاده وقُواه، وقد رددناه عن أسوارنا..، وهو يتَأَهَّبُ الآن؛ ليضرب ضربته الأخيرة، فاثْبُتوا كما ثبتّم من قبل، وادفعوه اليوم عن أسواركم كما دفعتموه بالأمس، حتى تخورَ قواه، وينتكص على أعقابه.

أيها الإخوان: إنكم سلالة صناديد أثينا، وأبطال روما، فكونوا أهلاً لهذا النسب الرفيع، ولا تُخِيفنَّكم صيحاتُ العدو، ونيرانُه المُتَصاعدة، وشدوا عزيمتكم، واصدقوا في القتال.." ثم أعلن أنه سيدافع حتى الموت.. ثم صلَّى النصارى صلاتَهُم، وقد امتلأتِ بِهِمُ الكنائس.

بعدها ذهب قُسْطَنْطِين إلى قَصْرِه يودعه، ويلقي عليه آخر نظرة قبل القتال، وظَلَّ يَبْكِي بُكاءً شديدًا حتى قال مَنْ حَضَرَهُ: "لو أنَّ شخصًا قُدَّ قلبه من خشب أو صخر لفاضت عيناه بالدمع لهذا المنظر".

وقبيل منتصف ليلة الثلاثاء رشت السماء بمطر خفيف ثبت الأرض، وفي الساعات الأولى من صباح يوم الثلاثاء العشرين من جمادى الأولى عام سبعة وخمسين وثمانمائة دقت طُبول الحرب، وتصاعَدَتِ التكبيرات مدوية مجلجلة من البر والبحر، وانطلق المسلمون يتسلقون الأسوار، والمدافع تضرب، والجنود تُكَبِّر، وحَمِيَ وطيس المعركة، واستمرَّتْ ساعات تدوي خلالها المدافع، وتمطر النبال، وتتحرَّكُ السفن والمراكب، والقتال مستعر في البر والبحر، وأبدى الفريقان بسالة عظيمة: النصارى يدافعون عن مدينتهم، والمسلمون يتسلَّقونَ الأسوار، ويلاقون المِحَن؛ حتى نجحوا في اختراق دفاعات النصارى ودخول المدينة[16].

فما برح قُسْطَنْطِين حتَّى رأى أعلام المسلمين تُرَفْرِف على قلاع القُسطنطينية وأسوارها، وجنودُه تهرب من أمام المسلمين، فأخذ يقاتل ذات اليمين وذات الشمال حتى كلَّت يده، ثم ضربه أحد المسلمين فخرَّ صريعًا.

وهكذا سقطت تلك المدينة المنيعة التي امتنعت على كبار القادة والفاتحين؛ ليذللها الله تعالى لمحمد بن مراد العثماني الذي لُقّب بعد ذلك بمحمَّد الفاتح، وكُنّي بأبي الفتح، وذلك فضل الله يُؤْتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم..

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 10].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..

**********

الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مُباركًا فيه كما يُحِبُّ ربنا ويَرْضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله كما أمر، واجْتَنِبُوا الفواحش ما بطن منها وما ظهر، واعلموا أن الله يحب المتقينَ.

أيها المؤمنون: لما سقطت القُسطنطينية في أيدي المسلمين، وتَمَّ الفتح المبين؛ جاء القادة يُهنِّئُون الفاتح، ويقولون: "لقد بارك الله في جهادِكَ يا سلطان، فكان يقول: حمدًا لله، ليرحم الله الشهداء، ويمنح المجاهدينَ الشَّرَفَ والمجد، ولشعبي الفخر والشكر".

لقد خاف النصارى وفزعوا في أوَّل الأمر؛ لأنَّهم ظنّوا أن يفعل بهم المسلمون مثل الذي فعله بهم الصليبيون لما دخلوا القسطنطينية في الحملة الصليبية الرابعة؛ إذِ استباحوا الحُرُمات، وأمْعَنُوا في قتل الناس، ونَهْبِ الأموال، وقالوا في أنفسهم: إذا كان هذا فعل حماة الصليب بنا لاختلاف مذهبنا عن مذهبهم، فكيف بمن يخالفوننا في ديننا؟! يعنون المسلمين، ولجؤوا إلى الكنائس يصلون ويبكون ويدعون.

وعند الظهيرة تَوَجَّه السلطان الفاتح إلى القسطنطينية على ظهر جواده، يحف به كبار قادته، وهَنَّأَ جنده بالنصر، ونَهَاهم عن القتل والسلب، وأوصاهم بأن يكونوا أهلاً لهذا الشرف والمجد بأخلاقهم الكريمة، فلمَّا توسَّط في المدينة ترجَّل عن فرسه، واستقبل القبلة، وسجد على الأرض، وحثا التراب على رأسه؛ تواضُعًا وشُكرًا لله تعالى على ما منحه من توفيق ونصر، ثم استأنف سيره إلى أكبر كنيسة للنصارى وهي كنيسةُ القديسة (أيا صوفيا)، ولما اقترب منها وصلت إليه أصواتٌ خافتة حزينة هي أصوات النصارى بداخلها، يصلون ويدعون بالنجاة، فقصد أحد أبوابها، فأمر الراهب بفتح الباب على مصراعيه، وانتاب الناسَ خوفٌ عظيم، وتوجَّسوا شرًّا مُسْتطيرًا، وانقطعوا عمَّا كانوا عليه، وسجد الفاتح مرة أخرى يشكر الله تعالى ويحمَدُه، ثم أمر النصارى بالعودة إلى منازلهم آمنينَ على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وأن يعود كل واحد منهم إلى عمله الذي كان يُمَارسه من قبل، فنزل هذا التأمين بردًا وسلامًا على أهل القسطنطينية، وقد كانوا يتوقعون أن ينكل بهم المسلمون.

وكان نفر من الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة خوفًا من القتل، فلما سمعوا بما فعله الفاتح، وحسن معاملته للنصارى؛ خرجوا من أماكنهم، وأعلن كثيرٌ منهم إسلامهم، ثم أمر السلطان بتحويل الكنيسة إلى مسجد، فأَذَّنَ فيها أحد العلماء، وأدَّوْا فيها صلاة العصر، ثم أعلن السلطان أنَّ أوَّل جمعة قادمة ستقام فيها الصلاة؛ فرفعت منها الصلبان، وهدمت التماثيل، وطمست التصاوير، وأنشأوا فيها مِحْرابًا ومِنْبرًا ومئذنةً، وظَلَّت مسجدًا تُقَام فيه الصلاة وحلقات العلم خمسةَ قرونٍ تِباعًا إلى أنِ استولى على السلطة: العلماني اليهوديُ أتاتورك؛ فحوَّل المسجد إلى متحف، عليه من الله ما يستحق.

ثم قصد السلطانُ قصر الإمبراطور قُسْطَنْطِين، فرأى ما فيه من الأُبَّهَة والعظمة وقد اغبرَّ بآثار الحرب والحصار، وأقْفَرَ من سكانه، وعشَّشَتِ العناكب في جدرانه، واستبدل في ليلة وضحاها حاكمًا بحاكم، وسيدًا بسيد؛ فكان عبرة بالغة، اعتبر بها السلطان الفاتح فقال رحمه الله تعالى: "إن العنكبوت قد نسجتْ بيوتها في قصر الأباطرة، وإنَّ البوم ينعق فيها نعيقاً محزنًا".

وأمر السُّلطانُ بمُداواة الجرحى من النصارى، وفدى كثيرًا من كبار الأسرى، وأمر بدفن قُسْطَنْطِين في مقبرة ملوك النَّصارى، ثُمَّ أمر النَّصارى أن ينتخِبوا أحد رهبانهم بطريركًا لهم، فجعله مسؤولاً عن شؤونهم وزواجهم وميراثهم وما يتعلَّق بدينهم، وأعطاه مقرًّا لعمله، وبالَغَ في إكرامه، حتى خجِل النصارى من كرم الفاتح فقال البطريرك: "إن الأباطرة النصارى لم يفعلوا قطّ مثلَ هذا لِمَن سَبَقَهُ مِنَ البَطَارِكَة".

وقد قال المؤرخون: "إنَّ السّلطانَ الفاتح قد حنا على أهْلِ القُسْطَنْطِينيَّة حُنُوَّ الوالد الشفيق العطوف على ولده".

ولم تمضِ إلا أيامٌ على فتحها حتى ساد الأمن والسكينة رُبُوع المدينة، واستأنف الناس حياتهم وأعمالهم، وفرح كثيرٌ منَ النصارى بهذا الفتح لما رأوا العدل الذي لم يكن موجودًا من قبل، ودخل كثير منهم في الإسلام.

أيُّها الإخوة المؤمنون: أتدرون رحِمَكم الله تعالى كم كان عمر هذا السلطان لمَّا أتمَّ الله تعالى له هذا الفتح المبين لهذه المدينة العتيدة؟! لقد أجمع المؤرخون من عرب وترك وروم وإفرنج على أنَّه لم يكن يتجاوَزُ الخامِسَةَ والعشرين من عمره، وقد قاد هذا الجيش العَرَمْرَم في البر والبحر، وبنى القلاع العظيمة، وفتح هذه المدينة المنيعة، ثم لم يستخفّه الفتح؛ بل عمِلَ فيها وفي أهلها عَمَلَ أهْلِ الحكمة والرأي والخبرة، ملتزمًا شريعة الإسلام التي هي العدل والرحمة.

ورغم هذا الطول في العرض فإني لم آت إلا على القليل من أخبار هذا الفتح المبين.

أسأل الله تعالى أن ينصر دينه، ويعزَّ جنده، ويُعْلي كلمته، ويدحر الباطل وأهله، إنه سميع مجيب.

سبحان ربك رب العزة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

 

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
اسباب فتح القسطنطينية سمراء الجمال تصنيف: المناسبات السنوية 0 01-30-2018 02:06 PM
معلومات عن فتح القسطنطينية سمراء الجمال تصنيف: المناسبات السنوية 0 01-30-2018 01:58 PM
بحث عن فتح القسطنطينية , تقرير عن فتح القسطنطينية سمراء الجمال ابحاث طلابية 0 01-30-2018 01:40 PM
خطبة عن الاختلاط , خطبة عن اختلاط الرجال بالنساء بنت العرب تصنيف: اسلاميات مميزة 0 01-05-2018 10:12 AM
خطبة عن العام الهجري الجديد , خطبة عن السنة الهجرية الجديدة ملك الاحزان تصنيف: اسلاميات مميزة 0 01-03-2018 05:09 AM


الساعة الآن 10:46 PM


(Kalimat1.com)
جميع الحقوق محفوظة © موقع كلمات وعبارات 2023